تنظيم قطاع البقالات والتموينات في السعودية
أعلنت وزارة البلديات والإسكان مؤخرًا عن مجموعة من الاشتراطات التشريعية الجديدة تهدف إلى تنظيم قطاع البقالات والتموينات والأسواق المركزية. تشمل هذه الاشتراطات تحديد الحد الأدنى لمساحات المحالّ والتنظيم اللازم لبيع بعض المنتجات الحساسة مثل التبغ والخضروات واللحوم الطازجة. تعتبر هذه الخطوة جزءًا من الجهود المبذولة لتحسين جودة المنتجات وتعزيز الصحة العامة وكفاءة السوق، من خلال وضع معايير واضحة لسلامة الأغذية وضبط البيئة التجارية.
إعادة هيكلة صناعة التجزئة
يأتي هذا القرار في سياق التحول التشريعي الذي تشهده المملكة، تماشياً مع رؤية السعودية 2030، والتي تهدف إلى تطوير القطاعات الخدمية وتعزيز التنافسية وتهيئة بيئة استثمارية آمنة تستقطب المستثمرين على المستويين المحلي والدولي. يعكس هذا القرار أيضًا حرص الوزارة على بناء نظام تشريعي متطور يحمي المستهلك ويعزز مصداقية السوق من خلال أسس مهنية وعادلة.
حددت الاشتراطات الصادرة عن المهندس ماجد الحقيل، وزير البلديات والإسكان، المساحات الدنيا للأنشطة التجارية، حيث تقرر أن تكون مساحة البقالة 24 مترًا مربعًا على الأقل، والتموينات 100 متر مربع، والأسواق المركزية (الهايبر ماركت) 500 متر مربع. كما تم منع الأكشاك والبقالات الصغيرة من بيع الخضار والفواكه واللحوم ومنتجات التبغ، حيث اقتصر بيع هذه المنتجات على التموينات بشروط تراخيص خاصة. يُسمح للأسواق المركزية ببيع جميع السلع. وقررت الوزارة أن تدخل الاشتراطات حيز التنفيذ فورًا، مع منح المنشآت القائمة مهلة تصحيحية لا تتجاوز 6 أشهر لتسوية أوضاعها.
ورغم أن الأهداف الصحية والتنظيمية التي يسعى القرار لتحقيقها تبدو منطقية، إلا أن توحيد المعايير دون مراعاة تنوع الأنماط التجارية قد يتسبب في نتائج سلبية على مستوى التنوع والاستثمار. يُظهر السوق المحلي ظهور نماذج تجارية جديدة تركز على الجودة والكفاءة التشغيلية بدلاً من الحجم، وتقدم خدمات متميزة ضمن مساحات صغيرة لكنها مُجهزة بتقنيات متقدمة وتخضع لنظم تشغيل صارمة.
من أبرز هذه النماذج سلسلة “ترولي” التي تقدم منتجات طازجة ووجبات جاهزة بجودة عالية، وكذلك المتاجر المتخصصة داخل محطات “أرامكو”، إلى جانب العلامات التجارية العالمية التي تستعد لدخول السوق السعودي بنماذج تشغيل مرنة وصغيرة. هذه النماذج أثبتت قدرتها على الالتزام بالجودة والسلامة، وغالبًا ما تتفوق على المتاجر الكبرى من حيث الكفاءة والانضباط.
هذه الأمثلة توضح أن الجودة وسلامة الخدمات لا تتعلق فقط بمساحة المحالّ، بل بفاعلية التشغيل والامتثال. تجاهل هذه الحقيقة قد يُقصي نماذج ناجحة ويُقيد فرص التوسع أمام مستثمرين نوعيين، مما يُضعف التنافسية ويُقلص الخيارات المتاحة للمستهلكين، وهذا يتعارض مع أهداف رؤية البلاد الهادفة إلى تحفيز الاستثمار وتعزيز بيئة الأعمال.
تتوافق هذه الرؤية مع تجارب دولية ناجحة؛ حيث لا تُقيد المتاجر الصغيرة في المملكة المتحدة بمساحات محددة طالما تلتزم بمتطلبات الصحة والسلامة، وفي سنغافورة يُطبق نظام “الترخيص المشروط” الذي يمكّن المتاجر الصغيرة من بيع المنتجات الطازجة شرط الالتزام الصارم بمعايير التشغيل والنظافة.
بناءً على ذلك، فإن استحداث استثناءات تشريعية مدروسة يمكن أن يُساهم في تحقيق توازن بين أهداف السلامة ومتطلبات الاستثمار. يمكن منح هذه الاستثناءات للمتاجر التي تعمل ضمن سلاسل موثوقة وتظهر امتثالها لمعايير الجودة والسلامة، وتكون خاضعة لتفتيش دوري. يُمكن أيضاً تبني معايير مرنة تعتمد على الكفاءة التشغيلية والامتثال الفعلي، وليس فقط على المساحة.
لتقليل الأثر على المنشآت القائمة، يُفضّل أن تُعتمد آلية تدرج زمني لأكثر من سنة لضمان الانتقال السلس نحو الامتثال وتُتيح تصنيف فئوي للمحالّ بناءً على أدائها والتزامها بالاشتراطات.
ختامًا، يُعتبر قرار وزارة البلديات والإسكان خطوة تشريعية هامة لتنظيم قطاع التجزئة وتحسين جودة المعروض، لكنه سيكون أكثر تأثيرًا إذا جاء برؤية مرنة تدعم الابتكار وتُعزز الاستثمار النوعي. التشريع الذكي لا يقتصر على وضع القيود، بل يشجع على الامتثال ويدعم النماذج الناجحة، مما يُفسح المجال للنمو والتنوع. عندما تدار البيئة التشريعية بهذه الرؤية المتوازنة، فإنها تضمن حماية المستهلك وتُسهم في بناء قطاع تجزئة سعودي حديث يجذب الاستثمار ويواكب طموحات رؤية 2030 نحو اقتصاد أكثر كفاءة واستدامة.
اترك تعليقاً