الأزمة المستمرة: من يملك قرار الهدنة في غزة؟
في وقت بدا فيه أن اقتراح المبعوث الأمريكي ستيف ويتكوف قد يسير نحو الحل، تفاجأ الجميع بسحب الحبل من كلا الطرفين: حماس تقترح تعديلات، وإسرائيل ترفض، مع تعليق المبعوث على الرد بأنه “غير مقبول تمامًا”. تستمر المفاوضات في مكانها، بينما تبدو الأرض غير متوقفة. الهدنة لم تعد مجرّد تفاوض، والسؤال الجوهري الذي يطرح نفسه: من يمتلك القرار؟ ومن يستطيع تحديد التوقيت؟ وسط الدمار في غزة، وفي ظل الصمت المطبق للقيادة الميدانية لحماس بعد سلسلة من الاغتيالات، تواجه الحركة مرحلة حرجة. فهل لا تزال تملك شيئًا للتفاوض عليه؟ ومَن هو ممثلها الفعلي اليوم؟ وماذا عن موقف إسرائيل التي ترفض الهدنة وتواصل عملياتها الحربية، في الوقت الذي تضغط فيه واشنطن وبعض العواصم العربية بجهود تبدو بلا جدوى أمام تعنت “الكابينت” الإسرائيلي؟ هل نشهد نهاية الاقتراح الأمريكي، أم بداية فصل جديد تشكله الفصائل خلف الكواليس؟
لا شريك متاح للمبادرة
لم يكن اقتراح المبعوث الأمريكي مجرد محاولة لوقف إطلاق النار، بل كان اختبارًا حقيقيًا لنوايا الجانبين، إذ شمل هدوءًا مرحليًا، تبادل أسرى، وبدء عملية إعادة الإعمار، فضلاً عن انخراط سياسي تدريجي نحو تسوية أكبر. لكن الاقتراح اصطدم بجدار متين: حيث ردت حماس بتعديلات تتضمن مطلبًا واضحًا بوقف دائم لإطلاق النار، وانسحاب إسرائيلي شامل، ووجود ضمانات دولية لا تعتمد فقط على الوعود الأمريكية. من ناحية أخرى، اعتبرت إسرائيل أن هذه التعديلات تعيد صياغة جوهر الاقتراح، ورفضت أي مفاوضات حولها.
مصادر دبلوماسية أشارت إلى أن ويتكوف قد يعود للمنطقة حالًا، في جولة تهدف لاستكمال الجهود الأمريكية نحو تثبيت هدنة مؤقتة قد تقود إلى اتفاق شامل. من المأمول أن تشمل زيارته الدوحة والقاهرة وتل أبيب، بالإضافة إلى اجتماعات غير علنية في الضفة الغربية. لكن عودة ويتكوف تعني أيضًا سد الفجوة بين تعديلات حماس والموقف الإسرائيلي المتصلب، وسط مؤشرات تُظهر أن واشنطن لا تزال تراهن على المبادرة كفرصة قائمة وليس كوثيقة محروقة.
وفي هذا الصدد يبقى السؤال مطروحًا: هل كان ويتكوف يملك منذ البداية اقتراحًا يصلح للتنفيذ؟ أم أنه كان على علم بأن الطرفين غير مستعدين لتقديم تنازلات حقيقية، لكنه أراد أن يسجل “محاولة دبلوماسية” تتجاوز الأوراق الرسمية؟
بعد اغتيال محمد السنوار، وهو أحد أبرز القادة الميدانيين، عاد الحديث حول القيادة الفعلية في غزة. يشير البعض إلى أن صالح العاروري، الذي اغتيل في بيروت أواخر 2023، كان المستخدم الرئيسي في صنع التفاهمات السياسية، في حين كان السنوار يمارس صفة عسكرية بحتة. واليوم، لا يبدو أن هناك قيادة واضحة، حيث تطرح تساؤلات عدة حول قيادة حماس وإمكانية اتخاذ القرارات من موقع قوة أو غموض. هل قرارات الحركة موحدة فعلًا، أم أنه بات منقسمًا بين جناح سياسي يسعى للتسوية وجناح ميداني يفضل المقاومة المباشرة؟ في خضم كل هذه التعقيدات، فإن أي رد على الاقتراحات لا يعكس موقفًا ثابتًا، بل هو مزيج من التقديرات والاحتياطات والرهانات التي لا تُعلن.
ردود الفعل الإسرائيلية توضح أنها ليست في صدد قبول أي هدنة قد تعيد حماس إلى الطاولة السياسية. بينما يسعى نتنياهو، المحاصر بأزماته الداخلية، لاستغلال استمرار الصراع كوسيلة للخروج من أزماته الوجودية. وفي خضم هذه التصورات، فإن أي اتفاق لوقف الأعمال الحربية دون “فوز واضح” سيكون بمثابة انتحار سياسي بالنسبة له ولحكومته.
منذ البداية يبدو أن الوسطاء العرب قد فقدوا جزءًا كبيرًا من فعاليتهم، مع تحول القرار إلى نتائج ضغوط واشنطن والتقديرات الإقليمية المتضاربة، إلى جانب الرغبة الروسية في إعادة التأثير في المشهد. يعد بعض الدبلوماسيين العرب أن المشكلة ليست في التفاصيل، بل في مستوى الثقة المتدني بين الأطراف، مستدلين بأن مقترح ويتكوف يتضمن نقاطًا مقبولة، بل إن التوقيت والاستراتيجيات غير مناسبة لتطبيقه على الأرض.
في الخلاصة، قد تكون غزة على أعتاب اتفاق غير متوقع، أو في خضم تصعيد جديد. لكن من الواضح أن “اقتراح ويتكوف” لم يعد مجرد متنفس، بل أصبح مرآة تعكس الأزمة العميقة، مما يثير تساؤلات حقيقية حول إمكانية الهدنة في absence قيادة واضحة من الطرفين، وقدرة أي اتفاق على الصمود أمام موازين القوى المتغيرة.
اترك تعليقاً